كيف تتحول الوصايا إلى حياة
بقلم قداسة البابا شنوده الثالث
إن الدين ليس مجرد معلومات، ولا مجرد إمتلاء من المعرفة الدينية. فالمعرفة وحدها لا تكفي. ماذا يستفيد الإنسان إن كان يعرف كل المعلومات عن الفضيلة، دون أن يسلك في حياة الفضيلة؟!
إذن لا بد أن تتحول المعرفة إلى ممارسة، وتتحول المعلومات إلى عمل، وبالتالي تصبح حياة.
?? نقول هذا لأن كثيرين يواظبون على قراءة الكتب الدينية، ويحرصون على حضور الاجتماعات الروحية في دور العبادة، ومع ذلك حياتهم هي كما هي دون تقدم. يعيشون بنفس الأخطاء التي يقعون فيها باستمرار، وتنقصهم بعض الفضائل التي يحتاجون إليها دون أن يخطوا خطوات عملية للحصول على تلك الفضائل.
?? من هنا كان لا بد للإنسان من بعض خطوات عملية يقوم بها لكي يبدأ القيام باصلاح ذاته روحياً.
لا بد للإنسان الذي يحرص على خلاص نفسه من أن يخلو بعض الأوقات إلى نفسه يفتّشها ويفحصها ويعرف في أي طريق تسير. وهذه هي فضيلة محاسبة النفس. أما الذي يترك نفسه بلا مراقبة ولا محاسبة ولا دراية بأي طريق تسلك، فهو شخص غريب عن نفسه غير مبالٍ بأبديته. وما أعجب الحكمة التي تقول اعرف نفسك.
?? إذا عرف الإنسان نفسه، وعرف عيوبه وأخطاءه ونقائصه، سيبدأ حينئذ بالعمل على تقويم ذاته وعدم السماح لنفسه بأن تسلك حسب هواها. وهنا يدخل في فضيلة أخرى هى ضبط النفس. وفي هذه الحالة يجُاهد مع نفسه كي لا تنحرف إرادته للخطأ، ويجُاهد مع الله في الصلاة طالباً نعمة ترشده وتقويه.
?? وكثيرون يستخدمون في هذا المجال التداريب الروحية: أي أن يدرب نفسه على فضيلة لكي يقتنيها، أو يدرب نفسه على ترك خطية معينة يقع فيها. ونحن ننصح القارئ العزيز إذا كشف له أحد الأشخاص عيباً موجوداً فيه، لا يتضايق من ذلك بل يشكر ذلك الشخص لأنه ينبهه إلى شئ عليه أن يجُاهد لكي يتركه.
?? وفي جلوس الإنسان مع نفسه، عليه أن يكون صريحاً مع ذاته إلى أبعد الحدود، ولا يحاول أن يغطي أخطاءه بالتبريرات أو التماس الأعذار. فالذي يبرر نفسه، يبقى دائماً حيث هو، لا يصلح من ذاته شيئاً، لأنه يرى ذاته جميلة في عينيه بلا عيب. أما إذا اعترف في داخل نفسه بأنه يقع أحياناً في أخطاء معينة، حينئذ يمكنه التدرج على ترك تلك الأخطاء.
?? إن التداريب الروحية وسيلة عملية تحول وصايا الله إلى حياة. ولا تبقى الوصايا مجرد معلومات يشتاق إليها الإنسان دون أن يدركها. وينبغي أن يكون التدريب في حدود طاقة الإرادة. فلا يدرب أحد ذاته على فضيلة فوق مستواه، أو على درجة أعلى من قامته. إنما الفضائل الكبار يسعى إليها الإنسان خطوة خطوة في حدود الممكن، وبهذا لا يشعر بالفشل والإحباط أذا قفز إلى أعلى مما هو فوق مستواه.
?? وليكن التدريب محدداً وواضحاً، فلا تقل مثلاً إني أريد أن أدرب نفسي على حياة التواضع أو الوداعة أو الإيمان. بينما تكون كل كلمة من هذه الكلمات غير واضحة في تفاصيلها أمامك وهكذا لا تفعل شئ. إنما قل مثلاً أريد في حياة الإتضاع أن أدرب نفسي على أمر واحد وهو أنني لا أمدح ذاتي أمام الآخرين.
?? وكذلك لا تقل أريد أن أدرب نفسي على ترك أخطاء الكلام. فهذا موضوع طويل له تفاصيل عديدة قد لا تستطيع أن تصل إليها دفعة واحدة. إنما قل مثلاً أريد أن أدرب نفسي على عدم مسك سيرة الناس، أو أريد أن أتدرب على الألفاظ الهادئة غير الجارحة أو قل أريد أن أتدرب على الكلام بقدر وعدم الإطالة في الحديث بلا داع. فما يحتاج إلى كلمة لا أقول فيه جملة. وما يحتاج إلى جملة لا أقول فيه محاضرة. وإن فهم محدثي ما أريد، لا داعي لأن أزيد. وهكذا كلما يكون التدريب محدداً، يمكن النجاح فيه.
?? الحياة الروحية لا تنمو بكثرة التداريب، وإنما بالثبات فيها. فإن القفز السريع من تدريب إلى آخر لا يفيد روحياً. لأن كثيرين يريدون أن يصلوا إلى كل شئ في أقل فترة من الوقت. فتكون النتيجة عدم الوصول إلى أي شئ!! أو أنهم يضعون أمامهم تداريب عديدة في نفس الوقت بحيث ينسون بعضها، أو لا يستطيعون التركيز عليها جميعاً. أما أنت فاسلك في تداريبك بحكمة شيئاً فشيئاً لكي تصل.
?? وإن سقطت في تدريبك في وقت ما، ولم تصل إلى ما تريد الوصول إليه، فاعرف أسباب الفشل وحاول أن تتحاشاها فيما بعد.
وهكذا تأخذ خبرة روحية في كل ممارساتك، وتعرف أسباب السقوط، وحروب العدو وطريقة الانتصار عليه. حتى أن البعض في تدريباتهم الروحية لأنفسهم وما أدركوه من نتائجها أو انتصارها أو فشلها، صاروا بهذه الخبرة مرشدين لغيرهم. كالأم التي اختبرت الحياة، وتستطيع أن تنصح ابنتها بنصائح عملية تفيدها.
?? وإن دربت نفسك على شئ من الحياة الفاضلة وفشلت في التدريب، فليكن لك ذلك سبباً في الاتضاع والشعور بالضعف، حتى لا تتكبر نفسك بتوالي النجاح. وأيضاً ليكن ذلك دافعاً لك أن تشفق على الضعاف والمخطئين. ولتكن سقطاتك موضوعاً لصلواتك تطلب فيها نعمة من الله وقوة.
?? إن التداريب الروحية هى جهاد للوصول إلى نقاوة القلب، وأيضاً إلى النمو في حياة البر. وهى خبرة تُدرك بها عمل الله معك، وكيف أنه يسندك في تدريبك. لذلك فهى ليست مجرد جهاد نعتمد فيه على عملنا البشري وقوة إرادتنا. إنما هى في روحانيتها طلبة مقدمة إلى الله لكي يتدخل في حياتنا وينعم علينا بما نريد في تنفيذ وصاياه.
فكثيرون يقدمون لله رغباتهم الروحية في أسلوب نظري، في مجرد مشاعر القلب أو كلام الصلاة. أما التداريب الروحية فهى رغبات تقدم إلى الله بأسلوب عملي يشعر فيه الإنسان أنه لا يستطيع وحده أن يصل إلى حياة الفضيلة والنمو فيها إلا بمعونة من عند الله تبارك اسمه.
?? وبالتداريب الروحية نقتني الثبات في الفضائل. لأنه ما أسهل أن يسير الإنسان في فضيلة ما يوماً أو يومين أو أسبوعاً. لكن المهم أن يستمر حتى تصبح هذه الفضيلة عادة فيه، أو تتحول إلى طبع، وتصبح جزء من حياته لا ينفصل عنه. وهذا طبعاً يحتاج إلى زمن واستمرارية. والاستمرار هو الدليل على معرفة عمق الفضيلة فيك.